الأربعاء، 23 سبتمبر 2015


مشوار المحبّة و السّلام

أسس و مفاهيم

بقلم: حسين أحمد سليم

تعتبر المحبة في مفاهيم المسارات الإنسانيّة في قمّة الفضائل و الأخلاق العظيمة، تلك التي وصّف فيها الله رسوله و نبيّه محمّد بن عبد الله بالخلق العظيم... فالمحبة في مفهومها الإنسانيّ و الرّوحيّ، هي الفضيلة الأولى في مقوّمات الشّخصيّة الإنسانيّة، بل هي مجاميع كلّ الفضائل في كينونة الإنسان... و هي المدخل الأقوم، و الصّراط الأفضل، و الطّريق الأصدق، لريادة مسارات السّلام الفعلي، المنشود عمليّا في هذا العالم الإنسانيّ الذي ضاق ذرعا بالصّراعات و الحروب و البغضاء و الإعتداءات و الإغتصابات و السّرقات و اللصوصيات و الجرائم و القتل و التّدمير... و السّلام ما هو إلاّ سلوك حيوي معيشي، ينبع من قيم المحبّة في المجتمع الرّاقي، و جميع الأديان السّماويّة دعت للسّلام، و إختار الله عزّ وجلّ لنفسه إسم السّلام... و التّحيّة بين العرب قبل الإسلام، كانت "السّلام عليكم"... و كانت تعني عدم الحرب و الإستقرار بين القبائل و العشائر العربيّة... و جاء الإسلام ليدعو النّاس للعمل بنفس التّحيّة،  و تحيّة "السّلام عليكم" هي تعبير آرامي قديم، وردت في العهد القديم من الكتاب المقدّس، و كانت مستخدمة في زمن الأنباط في البتراء... و قد وردت في بعض آيات القرآن الكريم، على لسان السّيّد المسيح، في قوله: "السّلام عليّ يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيّا" و أمّا في بقيّة الأنبياء و الرّسل، فيقول القرآن الكريم: "سلام على نوح" و " سلام على إبراهيم" و موسى و إبراهيم و موسى و هارون و آل ياسين و سلام على المرسلين"...

و الوصيّة العظمى في النّواميس الإلهيّة، هي العمل بالمحبّة، أيّ أن يُحبّ الإنسان الله إلهه من كلّ قلبه، و من كلّ فكره، و من كلّ وجدانه و من كلّ قدرته... و يُحبّ قريبه كنفسه، و بهذا تتعلّق جميع النّواميس الإلهيّة و رسالات الرّسل و الأنبياء... و لقد جاء جميع الرّسل و الأنبياء إلى هذا العالم، لكي ينشرون المحبّة، المحبة الباذلة المعطيّة، محبّة الله للنّاس، و محبّة النّاس لله، و محبّة النّاس لبعضهم البعض...

وهكذا يجب أن يتوفّر في الخلق الإنسانيّ حبّ بعضهم نحو بعض... و بهذا نحبّ الله حقّ الحبّ، و نحبّ الخير بحقّ... و نطيع الله من أجل محبّتنا له، و محبّتنا لوصاياه و محبّتنا لبعضنا البعض... و تربطنا بالله سبحانه و تعالى علاقة الحبّ، لا علاقة الخوف. فالخوف يربّي عبيدًا، أمّا الحبّ فيربّي الأبناء، و تبدأ علاقتنا مع الله بالمخافة و لكنّها يجب أن تسمو و تتطوّر حتّى تصل إلى درجة الحبّ، و عندئذ يزول الخوف من صدورنا... و يجب علينا ألاّ نخاف الله... ذلك لأنّنا نحبّه، و الحبّ يطرح الخوف إلى الخارج من كينونتنا...

 والإنسان الذي يصل إلى محبّة الله بحقّ، لا تقوى عليه وساوس الشّياطين مهما تعاظمت... تحاربه الشّياطين من الخارج، و لكن تتحطّم كلّ سهامهم على صخرة محبّته... فالمحبّة لا تسقط أبدًا...


و قال النّبي سليمان الحكيم في سفر النشيد: " المحبة قوية كالموت... المياه الكثيرة لا تستطيع أن تطفيء المحبّة"... و لذلك أحبب و أفعل بعد ذلك ما تشاء... و من مناجاة داود النّبي لربّه، قال: " يا ربّ أيّ عبادك أحبّ إليك حتّى أحبّه بحبّك  فقال الله عزّ وجّل، أحبّ عبادي إليّ، تقيّ القلب، نقيّ اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبّني، و أحبّ من أحبّني و حبّبني إلى خلقي، فقال داود: يا ربّ إنّك تعلم أنّي أحبّك، و أحبّ من يحبّك، فكيف أحبّبك إلى خلقك، قال يا داود ذكّرهم بآلائي، و نعمائي و بلائي"...

 وقد بلغ من أهمّيّة المحبّة أنّها غدت إسمًا لله تعالى... الله محبّة، من يثبت في الله، و الله فيه... و إنّ المحبّة في المفهوم الإنساني الرّوحي، هي قمّة الفضائل جميعًا للإنسان العاقل السّويّ... و هي أفضل من العلم، و أفضل جميع المواهب الرّوحيّة، و أفضل من الإيمان و من الرّجاء...

 و قد ورد عن بعض القدّيسين، أنّ من يتكلّم بألسنة النّاس و الملائكة، و لكن ليس له محبّة، فقد صار نحاسًا يطنّ أو صنجًا يرنّ، و إن كان له نبوءة، و يعلم جميع الأسرار و كلّ علم، و إن كان له كلّ الإيمان حتّى ينقل الجبال، و ليست له محبّة، فليس شيئًا...

فالعلم ينفخ، و المحبة تبنى... و الدّين في جوهره ليس ممارسات و لا شكليات و لا فروضًا، و لكنّه حبّ في الله تعالى... و على قدر ما في قلب الإنسان من حبّ لله و حبّ للنّاس و حبّ للخير، هكذا يكون جزاؤه في اليوم الأخير... و إنّ الله لا تهمّه أعمال الخير التي يفعلها النّاس، إنّما يهمّه ما يوجد في تلك الأعمال من حبّ للخير و من حبّ لله و من محبّة للنّاس خالصة لا تشوبها شائبة...

فهناك أشخاص يفعلون الخير ظاهرًا و ليس من قلوبهم، و هناك أشخاص يفعلون الخير مجبرين من آخرين، أو بحكم القانون، أو خوفًا من الإنتقام، أو خوفًا من العار، أو خجلاً من النّاس... و هناك أشخاص يفعلون الخير من أجل مجد ينالونه من النّاس في صورة مديح أو إعجاب... كلّ هؤلاء لا ينالون أجرًا إلاّ إن كان الحبّ هو دافعهم إلى الخير في سبيل الله و خلق الله...

 لذلك ينبغي أن نخطّط بكلّ فضيلة بالحبّ، و نعالج كلّ أمر بالحبّ، و أن يكون الحبّ دافعنا، و يكون الحبّ وسيلتنا، و يكون الحبّ غايتنا...و لتصر كلّ أمورنا في محبّة الله و محبّة النّاس... و الحبّ في حقيقته الجوهريّة يدخل في كلّ الفضائل... كما ينبغي أن يدخل الإتّضاع في كلّ فضيلة، لكي يحفظها من الزّهوّ و الخيلاء و المجد الباطل، كذلك ينبغي أن يدخل الحبّ في كلّ فضيلة، لكي يعطيها عمقًا و معنى و حرارة روحية...

فالصّلاة مثلا هي إشتياق القلب لله، و هى تعبير عن الحبّ الدّاخلي لله و خلق الله... و هو ما قاله داود النّبي في مزاميره: "يا الله أنت إلهي، عطشت نفسي إليك إلتحقت نفسي وراءك... كما يشتاق الأيّل إلى جداول المياه، كذلك اشتاقت نفسي إليك يا الله... محبوب هو إسمك يا ربّ، فهو طول النّهار تلاوتي"... "وجدت كلامك كالشّهد فأكلته"...

 و الذّهاب إلى بيت الله، يقول داود النّبي في مزاميره: "مساكنك محبوبة، أيّها الرّبّ إله القوّات... تشتاق و تذوب نفسي للدّخول إلى ديار الرّبّ"...

 إذن فليست الصّلاة فقط هي علاقة حبّ، و لا الذّهاب إلى بيت الله فحسب، و إنّما العبادة كلّها... إنّ العبادة ليست هي حركة الشّفتين بل القلب، إنّها حركة القلب نحو الله... إنّها إستبدال شهوة بشهوة: ترك لشهوة العالم، من أجل التعلق بشهوة الله في سبيل الخير...

 كذلك خدمة الله، و السّعي لخلاص أنفس النّاس... كلّها أعمال حبّ... فالخادم هو الإنسان الذي يحبّ النّاس، و يهتمّ بمصيرهم الأبديّ، و يسعى إلى خلاص نفوسهم. إنّه كالشّمعة التي تذوب لكيّ تضئ للآخرين دروبهم...

 لذلك كلّ إنسان يخدم الله، عليه أن يتعلّم الحبّ، قبل أن يخدم النّاس... فالنّاس يحتاجون إلى قلب واسع و صدر رحب و عقل مقلبن و قلب معقلن و وعي باطنيّ و عرفان ذاتيّ، يحسّ إحساسهم، و يشعر بهم و يتألّم لآلامهم، و يفرح لأفراحهم، و يحتمل ضعفهم، و لا يحتقر سقطاتهم، بل أيضًا يحتاجون إلى قلب يحتمل جحودهم و صدودهم و عدم اكتراثهم... و بالحبّ نستطيع أن نربح النّاس من حولنا...

 و الإنسان الذي يعيش بالحبّ، عليه أن يحبّ الكلّ... فإنّ القلب الضّيّق هو الذي يحبّ محبّته فقط، أمّا القلب الواسع فيحبّ الجميع حتّى أعداءه من حوله... و هو ما قاله السّيّد المسيح عليه السّلام: "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، و صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم و يطردونكم"...

أيّها الأخوة، أنظروا إلى الله تعالى الذي تشرق شمسه على الأشرار و الصّالحين، و تمطر سماؤه على الأبرار و الظالمين... لذلك علينا أن نحبّ الكلّ، و لا نضيق بأحد و نأخذ درسًا حتّى من الطّبيعة... نتعلّم من النّهر الذي يعطى ماءه للكلّ، يشرب منه القدّيس، كما يشرب منه الخاطئ... و أنظروا إلى الوردة كيف تعطى عبيرها لكلّ من يعبر بها، يتمتّع برائحتها البارّ و الفاسق، حتّى الذي يقطفها، و يفركها بين يديه، تظلّ تمنحه عطرها حتّى آخر لحظة من حياتها...

تعالوا أحبّتي و أخواني و أصدقائي، تعالوا نعيش معًا بالحبّ، و أقصد به الحبّ العملي، لا نحبّ باللسان و لا بالكلام، بل بالعمل و الحق و الوعي و العرفان... لأن كثيرين قد يتحدّثون عن الحبّ، و أعمالهم تكذّبهم...

و أهمّ ما في الحبّ هو البذل، و أعظم ما في البذل هو بذل الذّات... فلنحبّ النّاس جميعًا، لأنّ القلب الخالي من الحبّ، هو خال من عمل الله فيه، هو قلب لا يسكنه الله... و إن لم نستطع أن نحبّ إيجابيًا فعلى الأقل لا نكره أحدًا. فالقلب الذي توجد فيه الكراهيّة و الحقد هو مسكن للشّيطان... و إن لم نستطع أن نحبّ النّاس، فعلى الأقل لا نكرههم، و إن لم نستطع أن ننفع النّاس، فعلى الأقل لا نؤذيهم...

 فليعطنا الله محبّ البشر، الذي أحبّ الكلّ في عمق، أن نحبّ بعضنا بعضًا، بالمحبّة التي يسكبها الله في قلوبنا... لأنّ المحبة هي قوت القلوب، و غذاء الأرواح، و هي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الموات، و هي النّور الذي من فقده فهو في بحار الظّلمات، و هي الشّفاء الذي من عَدِمه حلَّت به الأسقام، و هي اللذّة التي من لم يظفر بها فعيشه كلّه هموم و آلام... و ما الإنسان إلاّ عقل يدرك ، و قلب يُحبّ... و إنّه لا إيمان لمن لا محبّة له، فالإيمان و الحبّ متلازمان، تلازم الرّوح و بالجسد، فما قيمة الجسد من دون روح كذلك ما قيمة الإيمان من دون حبّ... و بالسّلام المبني على المحبّة، تُبنى الحياة التي من أجلها كان الإنسان، فما أجمل السّلام و ما أروع كلمة السّلام في جوهرها و فعلها الميداني، فالسّلام كلمة حلوة و نغمة عذبة تطرب لها الآذان و تسعد لها القلوب، لأنّ السّلام إسم من أسماء الله الحسنى، و هذه الكلمة في الحقيقة تعني الأمن و التّسامح و الرّخاء و الإستقرار...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق