الاثنين، 14 سبتمبر 2015

رحل وبقيت أعماله الفنية
الفنان يحي علي ياغي
بقلم: حسين أحمد سليم آل الحاج يونس
أذكرك وأتذكرك , وأبقى وسأبقى إن شاء الله تعالى , يا معلمي الفنان التشكيلي اللبناني البعلبكي يا إبن مدينة الشمس , أيها الراحل إلى رحاب الله تعالى , ترود عالم الفن الأوسع ما بعد حدود هذه الدنيا , هناك تقيم مملكتك الفنية التشكيلة أيها التشكيلي يحي علي ياغي ...
لم ولن أنساك , وإن طال بي الغياب القسري . وأنا مكره على أمري , فالفقر المادي حطمني أي تحطيم وأنا القروي الريفي أقتات من مواسم الأرض , فلجأت إلى الجهادين الأصغر والأكبر , ليلا ونهارا , أتنقل في بلاد الله الواسعة من أجل لقمة عيشي وأبي وأمي وأسرتي ومتابعة تعليمي الديني والدنيوي ...
لم ولن أنسى أو أتناسى , أن من علمني الحب الشفيف للريشة واللون والورق والقماش , ودربني كيف أمسك الإزميل والمطرقة وأتعامل مع الحجر , وكيف أرسم وأنحت وأخلق من اللا شيء شيئا , وكيف أمسك القلم وأكتب الحروف والكلمات فالخواطر والوجدانيات والكتابات الأدبية المختلفة ... أحق بأن أخفض له جناحي محبة واحتراما وتقديرا وإخلاصا ووفاء و ... وهو أنت يا سيدي رحمك الله وأسكنك فسيح جنانه ...
أحاول جاهدا أن أرسم لوحة واقعية أو رمزية أو تجريدية أو سوريالية أو ... لابتسامتك المعروفة والتي لم تفارق محياك يوما , مهما اشتدت عليك النوائب ... أجرب مرارا كي أقوم بعمل فني ما ولو بسيط , كي أرد لك الجميل الذي أسديته لي وأنا على مقاعد الدراسة وما بعدها ... أصابع يدي الحانية , ترتجف كلما أمسكت بريشتي , وشعيرات ريشتي ترفض الانغماس في الألوان الترابية أو الزيتية لترسم وجهك الطافح بالبشر ... وقلم الرسم في يدي يبكي وتنهمر دموعه قبل أن أمسك به , كأنه يقرأ دواخلي قبلي ... ولوحة الرسم القماشية أو الورقية التي علمتني أسلوب التعاطي معها , تنكمش على ذاتها وتعتصر مسامها , كلما أحست بما ينتابني نحوك ... ليبقى طيفك الأثيري الشفيف , يوحي إلي ويواكبني ويتابعني ويحرضني ليلا نهارا , وحتى في سكينتي وهدأتي ...
باعدت بيننا الأقدار القسرية في بلادي , من حروب وحروب أصابت الحجر والبشر , ولم تسلم حتى أعمدة الهياكل التاريخية التي نحب في مدينة الشمس ... فنأيت عنك قهرا ولا حول ولا قوة إلا بالله , انما بقيت أذكرك في كل ومضة وبارقة , أتخاطر بروحك الأثيرية الشفيفة وأحلم بك في كل غفوة , ترشدني وتقومني حتى في حالة النوم ... وما غبت عن خيالي قيد أنملة قط , بل كنت حاضرا في جوارحي , عند كل عمل فني قمت به حتى كتابة هذه الخواطر ... وتجسد فنك يا سيدي أيها الفنان الكبير يحي علي ياغي في كل لوحة فنية من لوحاتي المنتشرة هنا وهناك ... وأبدعت ريشتك يا معلمي العظيم في خلق أعمالي التشكيلية , ووسمتني بمذهبك الفني ومدرستك التشكيلية , فغدوت لا أتعرف إلى ذاتي إلا من خلال شخصيتك الفنية ... وإن خططت لنفسي مسلكي ومساري ومذهبي ومدرستي في ممارساتي للفنون التشكيلية والفنون الأدبية ...
كتبت كثيرا للصحافة اللبنانية , ما يناهز ربع قرن أو أكثر في شتى المجالات ... وأشرفت على إدارة البعض من الصحف والمجلات , حتى بات القراء يعرفونني من كتاباتي ورسوماتي وإن لم أشر إليها ... وهو ما علمتني ذات يوم عن كيفية الذوبان خارج نطاق الأنا , وكيفية التحرر من الأنانية والغرور ...
بحثت عنك كثيرا غداة يوم ما , تعذبت طويلا وأنا أنقب عن التراب الذي دست عليه بنعالك ... أقحمت نفسي بالمتاهات الفنية الممتدة من حدود الماء إلى حدود الماء , حاورت وقابلت وكتبت ومحصت وانتقدت وساجلت ... فما ازددت إلا شوقا ونهما في فضاءات الفنون التشكيلية والأدبية ...
حرضت ذاتي لأعرف عنك شيئا , سألت عنك كثيرا هنا وهناك وهنالك , كي أقوم بجزء بسيط من واجبي الكبير اتجاهك . لكنني سيدي صدمتني المحصلة النهائية , عندما حملت نفسي ببقايا رمقها وفنها التشكيلي والأدبي لأهديها اليك , كونك الأحق بالهدية , فغصصت غصة كبرى , وجف الرضاب في فمي , وتلعثم لساني عند النطق , وأنا في بيتك الفني الموروث , الخالي من كل أثر فني لك , وقد رمي مهملا ما تبقى من أثرك , إلا بعض صور بالأسود والأبيض , يحفظها كريمك وكريمتك في محفظة سوداء مخبأة بعيدا عن متناول الجميع , هكذا شاءت الظروف ...
التقيت في منزلك البعلبكي بكريمك زاهر , فدمعت عيناي حسرة عليك , عندما قدم لي حفيدك لأتعرف إليه , فاذا هو صورة عنك ... وفي اللحظة نفسها تعرفت إلى كريمتك جوليانا , فارتجفت أمامها دون سبب واضح , ربما لأنها تحمل صورتك تماما ... وكأنني يا سيدي في هذه اللحظة , أحسست بقرارة نفسي بالتقصير الذي فرض علي قهرا من الزمن في التاريخ والجغرافيا ...
سامحني يا سيدي ومعلمي ومدربي وأستاذي ... فاذا كنت أفتخر اليوم بما لدي من بعض الإبداع وبعض الخلق الفني , واذا كان هناك لي من شعارات وأعمال فنية تشكيلية ذائعة الصيت هنا وهناك في بلادي على أكثر من صعيد ومستوى , فالفضل يعود لك , وهذا ما يعزيني عن نفسي وتقصيري وغيابك ...
أعدك يا سيدي وأنت في رحاب الله . أن أبذل قصارى ما أملك من مقومات فكرية وفنية في سبيل مجتمعي ووطني الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج , وأن أتابع الدرب وان كان شائكا , وأخدم عروبتي وإسلامي , بعمل فني تشكيلي ثقافي معرفي حضاري أنت قوامه . وما موسوعتي للفنون التشكيلية , وقاموسي الفني , ودليلي التشكيلي , وأعمال أخرى كثيرة ... إلا وفاء وإخلاصا لك , ولأجلك , تخليدا لمساراتك الفنية ...
آمل يا سيدي ومعلمي ومدربي , أن تمنحني فرصة من الوقت لأبرز ما عندي وفق الظروف المرحلية المناسبة , فما عندي كثير وكثير ولكن العين بصيرة واليد قصيرة ... وآمل أن تسامحني على تقصيري فأنا بشر سوي أخطيء أكثر مما أصيب وإلا ما خلقت في هذه الأرض ... وآمل أيضا أن ترحم ضعفي الموروث ... ورحمة الله عليك أيها الفنان التّشكيلي الراحل، يحي علي ياغي ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق